الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك؛ حتى قلن كلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يُضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلّلِيهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجِبَ الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة».وفي رواية عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه.فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله»..؛ وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية.وذكر المهدويّ عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ وقَدّم ما كان عنده إلى ضيفه.وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار يقال له أبو المتوكل ثابت بن قيس ضيفًا، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} إلى قوله: {فأولئك هُمُ المفلحون}.وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة.وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلانًا وعياله أحوج إلى هذا منّا؛ فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ}.ذكره الثعلبيّ عن أنس قال: أهْدِىَ لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهودًا فوجّه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} الآية.وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: «إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئًا» فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة؛ فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} الآية.والأول أصح.وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبيّ صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فُتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم.وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة؛ وكانت أمّ أنس بن مالك تُدعى أم سُلَيم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، كان أخا لأنس لأمه؛ وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عِذاقًا لها؛ فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، أم اسامة بن زيد.قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم.قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عِذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه.خرجّه مسلم أيضًا.الثامنة الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية.وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة.يقال: آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضّلته.ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم بيانه.وفي موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه؛ فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه.قالت: ففعلت.قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدى لنا: شاةً وكفنها.فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك.قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجّل منه ما يشاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه.ومن ترك شيئًا لله لم يجد فَقْدَه.وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شُحّ نفسه وأفلح فلاحًا لا خسارة بعده.ومعنى (شاة وكَفَنَها) فإن العرب أو بعض العرب أو بعض وجوههم كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غَطّوه كله بعجين البُرِّ وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم.وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنبًا، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه؛ فأراد السائل أن يرجع فمنع.ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه.وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرّف قال: حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح، ثم تَلَكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها.فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك؛ فقال: وَصَلَه الله ورَحمه، ثم قال: تعالى يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان؛ حتى أنفذها.فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل؛ وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل؛ وتَلَكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووَصَله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن! والله مساكين فأعطنا.ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها.فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسُرّ بذلك عمر وقال: إنهم إخوة! بعضهم من بعض.ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المُنْكَدِر دخل عليها.فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه.فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: {والصابرين فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس} [البقرة: 177].وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك.والإمساك لمن لا يصبر.ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.وروي أنّ رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: «يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدّق به ثم يقعد يتكفف الناس». والله أعلم.التاسعة: والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.ومن الأمثال السائرة:والجُودُ بالنَّفْس أقصَى غاية الجُودِ...ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حدّ المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لمّا تناهت في حُبّها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه.وأفضل الجود بالنفس الجودُ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح: أن أبا طَلْحة ترَسّ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلّع ليرى القوم.فيقول له أبو طلحة: لا تُشرِف يا رسول الله! لا يصيبونك! نَحْرِي دون نحرك! ووَقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلّت.وقال حُذيفة العدوِيّ: انطلقت يوم اليَرْمُوك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رَمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أنْ نَعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم.فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات.فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات.فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو مات.وقال أبو يزيد البِسْطَامِيّ: ما غَلَبني أحدٌ ما غلبني شابٌّ من أهل بَلْخ! قدِم علينا حاجًا فقال لي: يا أبا يزيد، ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إنْ وَجَدْنا أكلنا.وإن فقدنا صبرنا.فقال: هكذا كلاب بَلْخ عندنا.فقلت: وما حَدّ الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا.وسُئل ذو النُّون المصري: ما حَدُّ الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلًا بقرية من قُرَى الرَّيّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رُفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئًا؛ إيثارًا لصاحبه على نفسه.العاشرة: قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الخصاصة: الحاجة التي تختلّ بها الحال.وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر.فالخصاصة الإنفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة.ومنه قول الشاعر:
الحادية عشرة قوله تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} الشُّحّ والبُخْلُ سواء؛ يقال: رجل شحيح بَيّن الشُّحّ والشَّح والشّحاحة.قال عمرو بن كلثوم:
|